الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية معركة سياسية جديدة أعلى قمة السلطة بتونس- أصابع من ستبتلع في النهاية ؟ بقلم سامي بن سلامة

نشر في  09 جوان 2018  (13:36)

بقلم سامي بن سلامة

يبدو أن معركة جديدة حامية ستندلع قريبا جدا أعلى قمة السلطة بتونس بعد الخلافات الحادة التي استجدّت بين هرمي التنفيذية مباشرة بعد تعليق العمل بوثيقة قرطاج.
أُضيفت عوامل توتّر قصوى أخرى لتلك التي أدّت إلى الدعوة لقرطاج 2 وكانت متعلقة أساسا بالوضعين الإقتصادي والإجتماعي وبالفشل الواضح لحكومة الشاهد في إخراج البلاد من الأزمات المتراكمة. وحسب المعطيات المتوفّرة، فإن حدثان مهمّان عمّقا الفجوة نهائيا وأحدثا شرخا عميقا في العلاقة بين رئيس جمهورية في نهاية عهدته ورئيس الحكومة لعبت السلطة برأسه ومتمسك بمقعده معتبرا أنه أفضل ضمانة لربح معركة 2019 الرئاسية.
أوّلهما، أن الرئيس الباجي قايد السبسي تفاجأ بمحتوى خطاب يوسف الشاهد وهو خارج أرض الوطن والذي حمل فيه على ابنه حافظ ونسب له فيه علانية ما يقوله الجميع من مسؤوليته الكبرى في إنهيار حزب نداء تونس، إذ لم يكن على علم مسبق به. ثانيهما، أنه صُدم تماما من عملية تعيين وزير العدل غازي الجريبي المقرب من حركة النهضة على رأس وزارة الداخلية بالنيابة خلفا للطفي براهم.
وكان قايد السبسي قد اختار براهم وفرض تعيينه على رأسها للتخلص من رئيس ديوان علي العريض السابق وأحد من خلّفهم بعده في وزارة الداخلية وهو الهادي المجدوب. إذ يبدو وأن الرئيس وإثر إصرار رئيس الحكومة على تحوير وزاري كبير، وكان يرى الوقت غير مناسب لذلك، باعتبار أمله في إعادة عقد اجتماعات وثيقة قرطاج 2 والتخلص من كامل عناصر الحكومة، استجاب لرغبته في عزل وزير الداخلية السابق ولم يبد مانعا.
ونظرا لعدم إمكانية الإعتراض دستوريا أمام إصرار رئيس الحكومة على قراره، اشترط قايد السبسي في المقابل لمباركة ذلك تعيين وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي على رأس وزارة الداخلية. ما حصل هو وأن الشاهد عمد بعد الخروج من قصر قرطاج إلى إعفاء براهم ولم يعين الزبيدي الذي لا ترتاح له حركة النهضة كثيرا مكانه كما تم الإتفاق عليه.
بل يُرجّح أنه غيّر رأيه بعد استشارة حزب حركة النهضة داعمه الوحيد حاليا الذي نصحه بتعيين وزير العدل القريب منه غازي الجريبي على رأس الداخلية. كان ذلك خلطا غريبا في الصلاحيات والاختصاصات لم يحدث من قبل بين الأمن والعدالة وكان حزب الحركة اشترط غازي الجريبي سابقا وفرضه على رأس وزارة الدفاع في حكومة المهدي جمعة.
يمثّل الأمر ”انقلابا“ حقيقيا تمّ تحت أعيننا من قبل رئيس الحكومة على رئيس الجمهورية الذي دعمه، بعد أن أخرجه من العدم وجعله يتبوأ أبرز منصب في الدولة. انقلب رئيس الحكومة في نفس الوقت على الحزب الذي صعّده لسدّة السلطة والذي يحكم حاليا باسمه ولم يستشره في الأمر، وهو حزب كان إبن الرئيس الذي سيطر عليه بمباركة والده وأحاط نفسه فيه بمجموعة من المرتزقة قد أمعن في تدميره. فأفقده مكانته كحزب أول في البرلمان وكذلك أغلب ناخبيه، مما تسبب له في هزيمتين مدوّيتين في انتخابات ألمانيا الجزئية وفي الانتخابات البلدية الأخيرة.
يحكم الشاهد اليوم محاطا بمستشارين نهضويين في كل مكان، في غياب رد فعل من البرلمان المشلول على قراراته وفي غياب أي تحرك سياسي من حزب نداء تونس، الذي انضم العديدون من كتلته النّيابية للشاهد خوفا من اتخاذه اجراءات قانونية في حقّهم ومن ضمنهم رئيسها المشتبه في تلقيه رشاوى على ما يقال.
من البديهي القول بأن ما حصل كان في النهاية نتيجة منطقية لأخطاء سياسية عدّة ارتكبها الباجي قايد السبسي ولا أحد غيره، ويعود إلى حسابات سياسية خاطئة اعتمدها منذ صعوده إلى سدة الحكم سنة 2015. فقد تحالف مع حركة النهضة التي انتخب من أجل دفعها خارج السلطة، كما أنه تسبّب في دمار شامل لحزبه بتولية ابنه عليه وتسببه في طرد جميع الكفاءات التي ساهمت في اعتلاءه سدّة الحكم.
وتسبّب بوثيقة قرطاج الأولى في عزل رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد الذي لم يقصّر، ودفع بالشاهد الذي لم يكن يعرفه أحد من قبل وهو الموظف السابق بالسفارة الأمريكية مكانه باعتبار قربه من العائلة وامكانية التحكم فيه.
فشل الشاهد في إدارة الدولة وزاد الوضع تفاقما، مما جعل رئيس الجمهورية الذي إختاره وفشل في إختياره يخسر في نهاية الأمر ذلك الدعم الشعبي الكبير والأغلبية النيابية التي كسبها حزبه، مما مكّن حركة النهضة من اقتسام السلطة والنفوذ معه ومن الإفلات من المحاسبة وهو الأمر الذي زاد حدة وتوسّعا اليوم خاصة بعد تمرد رئيس الحكومة على رئيس الجمهورية.
يعيش الرئيس المنتخب معزولا في قصره لا داعم وازن له حاليا غير اتحاد الشغل، إذ تخلّى عنه حتى أقرب المقربين منه، مدير ديوانه الذي يبدو أنه انضمّ كذلك مؤخرا إلى مجموعة رئيس الحكومة استعدادا للمعركة ”الحاسمة“. ما نراه اليوم هو معركة وصلت لمراحلها النهائية، دخلنا فيها شوطا حاسما سيبين لنا من سينتصر في "كسر عظام" الآخر وفي ”ابتلاع أصابعه“.
وهو ما يجعلنا نتوقع لجوء المتحاربين إلى مختلف الأسلحة التي في حوزتهم مهما كانت حدتها وقسوتها وآثارها الجانبية، خاصة بعد ورود أنباء عن نوايا للشاهد في ايصال الأمور إلى مداها وإلى درجة التفكير حتى في اعتقال ابن الرئيس والمحيطين به في أول فرصة تتاح له وهو العالم أكثر من غيره بمدى انعدام شعبيته لدى الرأي العام.
يتمتع رئيس الحكومة بأسبقية فعلية في هذه المعركة المصيرية بينهما نتيجة أخطاء متراكمة للرئيس العجوز ولكنها أسبقية ”وهمية“ وغير مريحة إطلاقا، خاصة أنه محاط بفريق من الهواة غير المتمّرسين بشؤون السياسة وهو فريق لم ينجح في تدبّر شؤون الحكم مما سيجعله عرضة لارتكاب أخطاء كثيرة سيتمّ استثمارها ضد رئيس الحكومة لا محالة في أول فرصة.
قد يلجأ الشاهد طبعا إلى استدرار العطف الشعبي وإلى القيام بعمليات استعراضية تجلب له بعض الجامات على صفحته الخاصة بالفيسبوك. ولكن كل ما سيفعله لن يخفي حقيقة الوضع وطبيعة المعركة على الشعب التونسي، إذ تعلم نخبه جيدا بأن المعركة اندلعت من أجل السلطة وخلافة الرئيس العجوز لا غير، وبأنه لا دخل لمصلحة الوطن أوالمواطن فيها. يحضى الشاهد بدعم عديد الدول الغربية عن طريق سفاراتها في تونس، ويروّج عنه بأنه يستعد للقيام بخطوة حاسمة وتقديم تنازلات جنونية لتلك الدول بالإمضاء على كل ما طلبته منه فيما يخص اتفاقية ”الأليكا“ في مخالفة تامّة للمصالح الوطنية العليا.
يعارض الشاهد عديد الفاسدين ويسانده العديدون منهم كذلك وبعضهم من أقرب المقربين منه، وهو يستفيد كثيرا على مستوى الرأي العام من الحملة الشعواء وغير الموفقة التي تشنها عليه هذه الأيام قناة "نسمة". وهي قناة لا يتردّد صاحبها في المشاركة في جميع المعارك المندلعة من أجل كعكة السلطة رغم أن عديد التهم تلاحقه ومن ضمنها الفساد والتهرب الضريبي. يشعر المواطن التونسي والمراقبون بانزعاج شديد من المعارك المندلعة حول السلطة والنفوذ ولدى العديد منهم مشكلة أساسية مع الشاهد وهي أنهم يشكّون في نواياه ولا يصدقون وعوده.
لم يقدم الشاهد إلى اليوم أي برنامج أو أي مشروع يمكن الاعتداد به ليقتنع الناس بمساندته في حربه ضد "العائلة" أو ضد المافيات أو غيرها كما تريد مصالحه الإعلامية أن تبرزه للرأي العام. فهو لم يفعل في النهاية شيئا لصالح الوطن منذ توليه السلطة، إذ يشارف البلد على الإنهيار على يديه بعد أن انهارت الإدارة العمومية في عهده وأصبحت تعيش فوضى لا قرار لها. وفي عهده كذلك، افتقد المواطن التونسي أبسط حاجياته من الأدوية وحرقت الأسعار المشتعلة مقدرته الشرائية وقدرته على العيش بكرامة. ويحس المواطن بالضيق والألم وفقدان الأمل في تحسّن الوضع على المدى القريب، بدون أن تفعل الحكومة شيئا لمعالجة الوضع.
انهمك الشاهد في خدمة مشروعه الرئاسي، وهو يريد الرئاسة ولا يملك أي مشروع وطني أصلا وليس بجعبته ما يمكن أن يدفع المواطن البسيط أو حتى النخبة إلى مساندته ودعمه. إذ أن حتى عملية ايقاف أحد رؤوس الفساد "الجرّاية" والتي استبشر بها الجميع تبين أنها كانت عملية يتيمة وثبت فيما بعد أنها أتت في إطار تصفية الحسابات الدائرة صلب شقوق حزبه نداء تونس. يعتمد الشاهد كلّيا اليوم على حركة النهضة، التي توفر له الدّعم الذي يمكّنه من مواصلة التحرّك والتحرّش برئيس الجمهورية وبالمقابل، فإن هامش المناورة لدى رئيس الدولة المخضرم يضيق يوما بعد يوم بدرجة غير متوقعة. وهو ونتيجة أخطاء بدائية يجد نفسه تقريبا وحيدا في المواجهة ولا حلول دستورية متوافرة لديه للتخلص من "الإبن العاقّ" الذي وجّه له إهانات متتالية وخلّف له كدمات لن تنمحي.
لرئيس الدولة طبعا الكثير من الألعاب السحرية في جعبته وقد يقدم على تقديم عرض شعبي يقلب المعطيات رأسا على عقب في أية لحظة، فهو لم يفقد المعركة بعد ومن المستبعد أن لا يحاول تلقين غريمه المبتدئ درسا لن ينساه.
إن ذلك الذي انقذ الحكم في المرحلة الانتقالية الأولى من الإنهيار وذلك الذي حقق في فترة قصيرة التوازن السياسي في البلاد وقضى على هيمنة حركة النهضة يمكن أن نتوقع منه أي شيء وهو على كل حال لن يترك طريدته تمرّ بسلام. فمثله كمثل ذلك التمساح الجاثم في بركته بدون حراك، يخاله الناس ميتا ومع ذلك يفضلون عدم الاقتراب منه بأكثر مما تسمح به مسافة الأمان، خوفا على أطرافهم، فقد تكون فيه بقيّة من روح.
وما لم يحدث طارئ يغيّر المعطيات، فإن الوضع الحالي الذي وضع رئيس الجمهورية نفسه فيه، سيجبره منطقيا على السعي إلى التوافق مجددا مع رئيس حركة النهضة. فما من حلّ لحلحلة الوضع واسترجاع المبادرة إلاّ ذاك ولن يتمّ الأمر إلا بإعادة الروح إلى قرطاج 2 والإستجابة لشروط حركة النهضة لــ ”بيع“ رأس الشاهد وإذ بغير ذلك لا يمكن التفكير في تعليق الشاهد من ”أصابعه“.
لن يكون ذلك طبعا دون ثمن، إذ سيجبر قايد السبسي على القبول برئيس حكومة جديد ترضى به الحركة ويخدم مصالحها، كما سيضطر إلى القبول بإقتسام المقاعد الحكومية معها وقد يضطر أيضا إلى إعادة الروح للتحالف معها في البرلمان وخاصة على مستوى البلديات. سيكون الثمن مرتفعا جدا هذه المرة، ولكن لا خيارات سياسية أمام قايد السبسي للقضاء على طموح رئيس حكومته وعليه شخصيا بالمناسبة.
وكذلك لتفادي تغوّل حركة النهضة عن طريق الشاهد إلى حدود قصوى، في حالة كان الرئيس اقتنع أخيرا بأخطاءه وبضرورة منع تضخم الحركة إلى درجة غير مقبولة تهدّد فيه السلم الأهلي مرة أخرى، لكي لا يترك البلد عند نهاية عهدته وقد تسبب في جعلها أقوى مما كانت.
فما من مبادرات سياسية أخرى من الممكن أن يقوم بها الرئيس، نتيجة غياب حلفاء سياسيين أقوياء ولضعف المعارضة الديمقراطية وتهتك نسيح حزبه النداء الذي لا يمكنه الإعتماد عليه، إلا إذا ما أعاد جميع المطرودين والمنسحبين وأعاد ترميمه وهي عملية طويلة وصعبة ومعقدة قد تفلت حتى من بين يديه. ولا نصير له حاليا سوى الإتحاد، إذ تعيش المعارضة في الأثناء على وقع مسلسلات رمضان ولا شأن لها بالمعركة الحامية الوطيس الدائرة حاليا والتي تصب مباشرة في حساب حركة النهضة.
وهي معركة من شأنها إن انتهت بفوز الشاهد أن تؤدي إلى فسخ جميع مخرجات اعتصام الرحيل نهائيا، إذ تصطف فيها الحركة وراء رئيس الحكومة المتمرد خدمة لمصالحها التي هي بصدد تحقيقها من خلاله وهي لن تتركه حتما إن وصل إلى قصر قرطاج إلا وقد أصبح رهينة لديها. لم تمثّل المعارضة بجميع أطيافها قوة اقتراح في أية مرحلة من مراحل الأزمة وتكتفي بعض أطيافها وهي لا تزال غير واعية بالرهانات الوطنية، بانتقاد دور اتحاد الشغل بسبب مسايرته مواقف رئيس الجمهورية فيما يتعلق بحكومة الشاهد.
مع أن الاتحاد في اللحظة الراهنة ورغم كل ما يمكن أن يلام عليه فيه وخاصة فيما يتعلق بالوضع العام الذي وصلته البلاد نتيجة تنامي المطلبية المجحفة وتعطيل بعض الإصلاحات، يقوم بدور محوري في حماية تونس من ترتيبات ما بعد السبسي. تكشف الأزمة الحالية والتي ستشتعل مجددا مع عودة اجتماعات قرطاج 2، حدود قدرات الرئيس السبسي ومحدودية قراءاته للخارطة السياسية وتكاثر أخطائه.
وقد بينت لنا كذلك عمق الأزمات التي من الممكن أن يخلفها نظام سياسي هجين يُقزّم دور رئيس جمهورية منتخب ويسمح لرئيس حكومة غير منتخب بالتمّرد عليه وعلى الحزب الذي فاز في الانتخابات وصعّده إلى مركزه بأعلى سدّة السلطة.
إذ يمكّنه بكل أريحية وسهولة من التخلي عن حزبه للانتقال إلى قبول دعم غريمه الذي خسر الانتخابات لمجرد البقاء في السلطة مما يضرب جوهر العملية السياسية بدون أن يعترض أحد. فالأمر لا يتعلق بشخصية وطنية معروفة قبلت بتولي رئاسة الحكومة في فترة حرجة من تاريخ البلاد لإنقاذه مما هو فيه بل بشخصية مغمورة لا كفاءة معروفة لها، اقترحها الحزب الفائز بالإنتخابات ليمارس عملية الحكم من خلالها فانقلبت على حزبها وإتكأت على الحزب المنافس له للبقاء في الحكم. وفي دول أخرى تحترم نفسها يستقيل رئيس الحكومة الذي يفقد دعم الحزب الذي أوصله للسلطة وجوبا.
إن نظامنا السياسي قد جعل في نهاية الأمر من "القصاص" نموذجا ومثالا وعقلية، إذ يمكّن حتى رئيس الحكومة إن أراد، من السياحة والتنقل من حزبه إلى حزب آخر متى شاء وهو نظام يكون بالتالي قد أسّس لبدعة عالمية هي ”السياحة الحزبية“ ليس ضمن السلطة التشريعية فقط، بل كذلك ضمن السلطة التنفيذية واعتمدها كشعار رسمي للجمهورية الثانية.